إجتماعيهالباحثمحليات

القواعد والضوابط الفقهية للتعامل مع الأوبئة وتطبيقاتها

بقلم : د/ سامح أبو طالب

القاعدة الرابعة : يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر عام :

جاء الشرع ليحفظ على الناس دينهم وأنفسهم وعقولهم وأعراضهم وأموالهم ، وكل ما يؤدي إلى الضرر بواحد منها يجب أن يزال ما أمكن ، وفي سبيل تأييد مقاصد الشرع يدفع الضرر الأعم بارتكاب الضرر الأخص ، جاء في شرح مجلة الأحكام ” بشرط أن لا يكون الضرر الخاص مثل الضرر العام ، بل دونه فيدفع الضرر العام به ” .([1])

ومن تطبيقات القاعدة : أقر الإسلام  حرية التملك ودعا إلى التجارة وكسب الأموال ، وهناك من يملك شركات ومصانع بها كثير من العمال والموظفين ، وإذا توقفت هذه الشركات والمصانع في وقت الأوبئة فلاشك من وجود خسائرفادحة تصيب أرباب الأملاك وكذلك خسائر للعاملين ، وهذا ضرر محقق ، ولكن هناك ضرر أخطر وأكبر من تجمع هؤلاء العاملين ليس عليهم فقط بل على المجتمع كله ، وهنا يجب إغلاق هذه المنشآت وتعطيل أعمال الناس ؛ دفعا للضرر العام . جاء في شرح المجلة ”  إذا تعارضت مفسدة ومصلحة يقدم دفع المفسدة على جلب المصلحة ، فإذا أراد شخص مباشرة عمل ينتج منفعة له ولكنه من الجهة الأخرى يستلزم ضررا مساويا لتلك المنفعة أو أكبر منها يلحق بالآخرين فيجب أن يقلع عن إجراء ذلك العمل ؛ درءا للمفسدة المقدم دفعها على جلب المنفعة ؛ لأن الشرع اعتنى بالمنهيات أكثر من اعتنائه بالمأمور بها ” ([2]) .

كذلك في زمن الأوبئة يظهر جشع التجار – إلا من رحم ربي-  فيستغلون ظروف الناس وحاجتهم الملحة للشراء فيرفعون الأسعار على الناس فيلحقوا الضرر بهم ، وهذا ضرر عام يلحق معظم الناس ، وهنا يجب التسعير من قبل السلطات ، وإن كان هذا التسعير قد يضر ببعض التجار إلا إنه يرفع ضررا عاما عن جميع الناس ،  فيدفع الضرر الأعم بارتكاب الضرر الأخص . قال ابن نجيم([3]) ” ومن فروع هذه القاعدة : ويجب التسعير عند تعدي أرباب الطعام في بيعه بغبن فاحش ، ومنها : يجب بيع طعام المحتكر جبرا عليه عند الحاجة وامتناعه من البيع ، دفعا للضرر العام “.

المسألة الثانية : بعض الضوابط الفقهية في زمن الأوبئة :

الضابط الأول : إن الإنسان مقدم على من سواه

فكل التصرفات والقرارات التي تتخذ من قبل الحكومات والهيئات والمؤسسات لا بد أن تخدم في المقام الأول الإنسان ، فهو مناط التكليف ، وحفظ النفس مقدم على كل الاعتبارات الاقتصادية والسياسية وغيرهما ، قال الإمام القرافي 🙁[4]) ” يجب تقديم صون النفوس والأعضاء والمنافع على العبادات ، فيقدم إنقاذ الغريق والحريق ونحوهما إذا تعين ذلك عليه على الصلاة ، ولو كان فيها أو خشي فوات وقتها ، ومنها تقديم صون مال الغير إذا خشي فواته على الصلاة عند من يقول حق العبد مقدم ، بدليل ترك الطهارات والعبادات إذا عارضها ضرر العبد” فإذا كانت العبادات والطهارات قد تترك في وقت من الأوقات مخافة الضرر  بالآدمي ، فغيرها أولى بالترك إذا كان فيه حفاظا على حياة الآدمي .

الضابط الثاني :الضرورة لا تبطل حق الغير

الإنسان في زمن الأوبئة ربما تلجئه الضرورة  والحاجة لأخذ مال الغير أو إتلافه بشكل من الأشكال ، تحت دعوى أن الضرورات تبيح المحظورات ، أو تتعدى الحكومات على حق آدمي بدعوى الصالح العام ، والحقيقة كلٌ ضامن لما أتلف ؛ لأن الضرورة لا تسقط حق الغير ، وكذلك لا تسقط حرمة التعدي على مال الغير ، قال الإمام السرخسي : ”  فتناول مال الغير بغير إذنه للمضطر عند خوف الهلاك فإنه رخصة مع قيام سبب الحرمة وحكمها ، وهو حق المالك، ولهذا وجب الضمان حقا ،  ….. فإن رخص له بالإقدام على ما فيه رفع الهلاك عن نفسه فذلك واسع له تيسيرا من الشرع عليه ، وإن امتنع فهو أفضل له ، ولم يكن في الامتناع عاملا في إتلاف نفسه بل يكون متمسكا بما هو العزيمة “([5]) فكلاهما ضامن لما أتلف أو أخذ .

فقد روى جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – قال: قال النبي : صلى الله عليه وسلم- “…إنَّ دمَاءَكُمْ وأَمْوَالَكُمْ حرَامٌ علَيْكُمْ كحُرْمَةِ يَوْمكُمْ هذا في شَهْركُمْ هذا في بَلَدكُمْ هذا …”([6] )  فقد اتفق الفقهاء على أنه لو اضطر إلى طعام غيره فأكله ، ضمنه ، فدل على أن الضرورات لا تبيح إتلاف مال الغير بغير ضمان . ([7])

الضابط الثالث : ترك الإحسان لا يكون إساءة

أي : أن الناس وقت الوباء إذا تركوا فعل ما ينبغي من الخير والمعروف لا يعتبر ذلك إساءة ، وذلك إن لم يكونوا مكلفين بإغاثة الموبوء ، كالأطباء والمسعفين وكل مسؤول مناط به واجب حال الوباء، ولكن إذا ترك غير المكلفين إغاثة المضطر حتى هلك ، فهل يضمنون ؟

فقد اختلف الفقهاء في تضمين من امتنع عن دفع الضرر عن المضطر أومساعدته مع قدرته على ذلك ، فيرى أكثر الفقهاء أن كل من رأى إنسانا في مهلكة فلم ينجه منها مع قدرته على ذلك لم يلزمه ضمانه ، وقد أساء ؛ لأنه لم يهلكه ، ولم يكن سببا في هلاكه كما لو لم يعلم بحاله .

وذهب المالكية وأبو الخطاب من الحنابلة إلى أن الممتنع مع القدرة يلزمه الضمان ، لأنه لم ينجه من الهلاك مع إمكانه ، فيضمنه كما لو منعه الطعام والشراب . ([8])

الضابط الرابع : يرخص عند الوباء في مس الذكر للأنثى والعكس ؛ للحاجة والضرورة

في حال الوباء ربما تستدعي الضرورة  إباحة المحظور كما تقدم من أنها تباح في الضرورات بقدرها ، فقد أجاز الفقهاء الخلوة بالرجل أو المرأة من أجل الاستنقاذ والتداوي في حالة الضرورة ، مع مراعاة الآداب الإسلامية ، فقد جاء في مواهب الجليل : ” ما إذا وجد الرجل المرأة في مفازة  وخشي عليها الهلاك ، فإنه يجب عليه أن يصحبها معه وأن يرافقها ، وإن أدى إلى الخلوة بها لكن يحترس جهده ، والأصل في ذلك : قضية السيدة عائشة – رضي الله عنها -في حديث الإفك ”

قال القاضي عياض :”  فيه حسن الأدب في المعاملة والمعاشرة مع النساء الأجانب ، لا سيما في الخلوة بهن عند الضرورة ، كما فعل صفوان من تركه مكالمة عائشة وسؤالها ، وأنه لم يزد على الاسترجاع وتقديم مركبها وإعراضه بعد ذلك حتى ركبت ، ثم تقدمه يقود بها ، وفيه إغاثة الملهوف ، وعون الضعيف ، وإكرام من له قدر ، كما فعل صفوان في ذلك كله “([9])

 

 

([1] ) انظر : درر الحكام شرح مجلة الأحكام ،علي حيدر ، ط : دار الكتب العلمية – بيروت – ( 1/36)

([2] ) المرجع السابق ( 1/37)

[3]) ) انظر : الأشباه والنظائر لابن نجيم ،الشيخ زين العابدين بن ابراهيم بن نجيم ، ط : دار الكتب العلمية – بيروت (1 / 87)

([4] ) الفروق أو أنوار البروق في أنواء الفروق (مع الهوامش ) ،أبو العباس أحمد بن إدريس الصنهاجي القرافي ، ط : دار الكتب العلمية – بيروت – (2/331)

(96) انظر: أصول السرخسي ، محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي أبو بكر ، ط : دار المعرفة – بيروت ( 1/118/119)

([6] ) أخرجه مسلم في صحيحه ، باب حجة النبي – صلى الله عليه وسلم – ( 2/889) برقم ( 1218)

(98) انظر :مختصر اختلاف العلماء ، الجصاص أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي ، ط: دار البشائر الإسلامية – بيروت – (3/404)

 

[8] ) انظر : مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج ، محمد الخطيب الشربيني ، ط: دار الفكر – بيروت- (4/5 )، وحاشيةالدسوقي (4 / 242 و 2 / 112 )، وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ،علاء الدين الكاساني ، ط: دار الكتاب العربي – بيروت- (7 / 234 ، 235)

100)) مواهب الجليل لشرح مختصر خليل ، محمد بن عبد الرحمن المغربي أبو عبد الله ، ط : دار الفكر – بيروت – ( 2/526)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى