مقالات

“في بيتنا غريب” .. “فيلم بلا مخرج “

 بقلم د. مـحـمــد يـونـــٍسمحمد يونس 1

علي غرار الفيلم الشهير «في بيتنا رجل» الذي يصور قصة مناضل مصري (جسده الفنان عمر الشريف) قرر العيش في منزل زميله الجامعي هربا من الشرطة وتمويها لنشاطه السياسي المعادي للاحتلال الانجليزي قبل ثورة 1952م، تعيش حاليا آلاف الأسر أفلاما أخري تنتمي لتليفزيون الواقع تجسد نضال غرباء يعيشون فيها بأجسادهم، بينما تنشغل عقولهم بقضايا وكفاح لاينتمي للنوعية التي جسدها الفيلم الشهير، ولا تدخل في الحراك السياسي القائم ولا تندرج حتي ضمن القضايا الإنسانية العالمية كمواجهة الفقر والمرض والتغيير المناخي. وإنما هو فيلم بلا مخرج، أبطاله لا يجمعهم رابط، حولتهم الأجهزة الذكية إلي كائنات غبية هائمة في البيت، أصابعهم تطقطق علي لوحة مفاتيح، وآذانهم مسدودة بسماعات، وألسنتهم كفت عن الكلام، وانقطعت علاقتهم بمن حولهم وتاهوا في عالم رقمي ، تحيتهم فيه ليست السلام عليك وإنما «شيير.. و أد ..و لايك «!

في الأوراق الرسمية هم أبناؤنا، وفي الواقع الحقيقي أو الافتراضي هم غرباء عنا، لا يجمعنا بهم حوار ولا مائدة طعام، ولا حتي الجلسة العائلية أمام المسلسل العربي التي أصبحت من ذكريات الماضي وحل محلها جلسة انفرادية مع «اليوتيوب». هذه الحالة التي استجدت علي الأسرة اليوم بفعل الثورة الرقمية، جعلت تعاملنا مع هذه الظاهرة عشوائيا لا يستند الي أسس علمية ولا تقاليد مجتمعية، ووضعت الكثير من الأسر أمام أزمة حقيقية، حيث لم تتبلور أعراف ولا قواعد ترشدنا لأسس التعامل مع هذا التطور الجديد. كثيرون يعلمون حجم المشكلات الصحية الناتجة عن الانكفاء لساعات طويلة علي الأجهزة الذكية سواء كانت حواسيب أو هواتف، ولكن قليلون ينتبهون الي الأثر الأخطر المتعلق بالجانبين التربوي والاجتماعي لأنه أثر مستتر بلا ألم مثل السرطان. المشكلة تزداد تعقيدا بدخول الأطفال مبكرا في هذه المعمعة ، حيث بدأوا يكتسبون مهارات ومعارف جعلتهم يتصورون أنهم تجاوزا مرحلة التوجيه من الأبوين أو المعلمين. ومن ثم نجد أنفسنا أمام جيل تيتم مرتين، الأولي بالأمس القريب نتيجة تراجع التربية من حسابات المدرسة ،و الثانية تحدث اليوم بسبب تقلص دور الأسرة التربوي، لصالح الإنترنت.

لقد حذرت دراسات عديدة من أن استخدام الانترنت أصبح بديلاً للتفاعل الاجتماعي الصحي مع الرفاق والأقارب مما يعني تغيرًا في منظومة القيم الاجتماعية للافراد حيث يعزز هذا الاستخدام المفرط الميل للعزلة لدي لمراهقين والشباب مما يقلل من فرص التفاعل والنمو الاجتماعي والانفعالي الصحي .

وتشير بعض الدراسات إلي أن استخدام الانترنت يعرض الأطفال والمراهقين إلي مواد ومعلومات خيالية مما يعيق تفكيرهم وتكيفهم وينمي بعض الأفكار غير العقلانية، وخصوصا ما يتصل منها بنمط العلاقات الشخصية وأنماط الحياة والعادات والتقاليد السائدة في المجتمعات الأخري.

وكشفت دراسة أجرتها منظمة «أنقذوا الأطفال» العالمية، أن تقنيات الاتصال الحديثة أوجدت جيلاً من الأطفال يعاني الوحدة وعدم القدرة علي تكوين صداقات. وذكرت بحوث أخري أن هناك تأثيرا سلبيا لاستخدام الانترنت علي الهوية والعقل والتعلم. فكيف نستطيع أن نسخر هذا الوسط التكنولوجي الجديد لخلق بدائل أفضل لمستقبلنا، قبل أن نتحول إلي عبيد تسخرنا التكنولوجيا لخدمتها؟

هذا السؤال تطرحه د. سوزان جرينفيلد الأستاذة بجامعة أوكسفورد، في كتابها الجديد»تغير العقل: كيف تترك التكنولوجيا الرقمية تأثيراتها علي عقولنا؟» توضح الكاتبة أنه بسبب الشبكات الاجتماعية تتغير هوية الناس ، فلم يعد البشر يعرفون شخصاً ما كالجار مثلاً معرفة وثيقة، وإنما حل محلها معرفة إلكترونية، تركز علي أشياء ثانوية،من قبيل: ما هوايتك؟ وما الأفلام التي تفضلها؟ وما الموسيقي التي تحبها؟ بحسب تقسيمات فيسبوك، لكن لن تجد شيئاً عن «الذات الحقيقية» .

وتعتقد أن جيل «يوتيوب» مهتم بالتعبير عن نفسه أكثر من الاهتمام بمعرفة العالم. وتري أنه في ظل شبكات التواصل الاجتماعي، أضحت الهوية «مثالية مبالغاً فيها»، حيث يتصرف شباب «الثقافة الرقمية» بشكل مختلف علي فيسبوك وتويتر ، ويحرصون علي الظهور بصيغة مثالية ومختلفة عن الحياة الواقعية؛ مشيرة الي الاختبارات التي يطرحها موقع فيسبوك عن شخصياتنا وما يشابهها من العظماء بينما لا يسألنا عن سلبياتنا»! فهل من سبيل يجعنا نرشد استخدام أبنائنا هذه التقنية الرقمية، أم أن العشوائية أصبحت أسلوب حياة ؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى