إجتماعيهالباحثعام

القواعد والضوابط الفقهية للتعامل مع الأوبئة وتطبيقاتها

بقلم : د/ سامح أبو طالب

المبحث الرابع : طرق الوقاية من الأوبئة المعدية

للوقاية من الأوبئة طرق متعددة ، ذكرها الفقهاء والأطباء ، وسأذكر في هذا المبحث بعضا منها ، وأرجو أن يكون ما اخترته كافيا لأن يجنبنا الإصابة بهذه الأمراض– إن شاء الله – :

أولا : النظافة المستمرة : النظافة هي ركن الصحة البدنية ، وبيان ذلك[1] : أن الأوساخ والأقذار مجلبة للأمراض والأدواء الكثيرة ، كما هو ثابت في الطب ؛ ولذلك نرى الأطباء ورجال الحكومات  يشددون في أيام الأوبئة والأمراض المعدية – بحسب سنة الله تعالى في الأسباب – في الأمر بالمبالغة في النظافة ، وجدير بالمسلمين أن يكونوا أصلح الناس أجسادا ، وأقلهم أدواء وأمراضا ؛ لأن دينهم مبني على المبالغة في نظافة الأبدان والثياب والأمكنة ؛ فإزالة النجاسات والأقذار التي تولد الأمراض من فروض دينهم ، وزاد عليها إيجاب تعهد أطرافهم بالغسل كل يوم مرة أو مرارا ؛ إذ ناطه الشارع بأسباب تقع كل يوم ، وتعاهد أبدانهم كلها بالغسل ، فإذا هم أدوا ما وجب عليهم من ذلك ، تنتفي أسباب تولد جراثيم الأمراض عندهم ، ومن تأمل تأكيد سنة السواك ، وعرف ما يقاسيه الألوف والملايين من الناس من أمراض الأسنان ، كان له بذلك أكبر عبرة ، ومن دقائق موافقة السنة في الوضوء لقوانين الصحة – غير تقديم السواك عليه – تأكيد البدء بغسل الكفين ثلاث مرات ، وهذا ثابت في كل وضوء ، فهو غير الأمر بغسلهما لمن قام من النوم ؛ ذلك بأن الكفين اللتين تزاول بهما الأعمال يعلق بهما من الأوساخ الضارة وغير الضارة ما لا يعلق بسواهما ، فإذا لم يبدأ بغسلهما يتحلل ما يعلق بهما فيقع في الماء الذي به يتمضمض المتوضئ ويستنشق ، ويغسل وجهه وعينيه ، فلا يأمن أن يصيبه من ذلك ضرر مع كونه ينافي النظافة المطلوبة ، ومن حكمة تقديم المضمضة والاستنشاق على غسل جميع الأعضاء اختبار طعم الماء وريحه ، فقد يجد فيه تغيرا يقتضي ترك الوضوء به .فينبغي للعقلاء أن يأخذوا في اتقاء ضررها بنصائح أطباء الأبدان – ولا سيما في أوقات الأوبئة – كاستعمال المطهرات الطبية وغيرها – والوقاية نوعان : أحدهما اتخاذ الأسباب التي تمنع طروءها من الخارج ، كالذي تفعله الحكومات في المحاجر الصحية في ثغور البلاد ومداخلها ، وسيعرض بعد قليل .والنوع الثاني : تقوية الأبدان بالأغذية الجيدة والنظافة التامة لتقوى على منع فتك هذه الأوبئة إذا وصلت إليها .

ثانيا : الحجر الصحي : اختلف أهل العلم في تعريف الحجر ، إلا إنهم متّفقون على أنه المنع من التّصرّف سواءً كان التصرّف فعلاً أو قولاً ، في المال أو غيره .

قال الماوردي ([2])  : ” أما الحجر فهو من كلامهم ، المنع ، سُمّي به ؛ لأن المحجور عليه ممنوع من التّصرّف باختياره” . وقد شُرع الحجرُ حمايةً للفرد والمجتمع من تصرّفاتٍ تصدر من المحجور عليه ، قد تضرّه ، أو تضرّ غيره ، وقد يكون الحجر لحماية المحجور عليه، وحماية غيره في الوقت نفسه ، كالحجر  الصحي ، يكون على المحجور عليه سواءً كان مريضاً ، فيحجر عليه حتى يشفى من مرضه ، أو صحيحاً حتى لا يصاب بالمرض ، وفي الوقت ذاته فيه حماية للمجتمع من انتشار المرض المعدي فيه .

ومن كلام الأطباء يمكن أن يُعرف الحجر الصحي بأنه : الحد من تحركات المريض بالمرض المعدي الساري أو المشتبه بإصابته ، مدّة معلومة ، حتى يتم التّأكّد من شفائه ، أويتم تحصينه ([3]) .

فليس كل مرض معد يتم الحجر فيه على صاحبه ، بل هو مخصوص بالأمراض السارية الوبائية ،والمدة المعلومة التي يحجر عليه فيها  هي مدة حضانة المريض بالنسبة للمشتبه بإصابته ، ومدة العدوى بالنسبة للمصاب بالمرض المعدي الساري .  ومفهوم الحجر الصّحيّ ، عرفه المسلمون وعملوا به قبل أن يعرفه العالم ، فالعالم لم يعرف مفهوم الحجر الصّحيّ إلا أواخرَ القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ([4]) . جاء في الحديث الصحيح فيما أخرجه الشيخان عن أسامة بن زيد  – رضي الله عنهما -قال : سمعت رسول الله   يقول : ” الطاعون رِجسٌ أُرسل على طائفةٍ من بني إسرائيل ، أو على من كان قَبلكم ، فإذا سمعتم به بأرضٍ فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه ” ([5]) . فدلّ الحديث على النهي عن القدوم إلى البلد المصاب بالوباء المعدي ، أو خروج من كان فيها وقت العدوى منها . والنهي في الحديث عند أكثر أهل العلم للتحريم .

ومدلول الحديث هو معنى الحجر الصّحّيّ ، وهذا ما قرّره الطّبّ الحديث بعد أن عَرَف الكثير من طبائع الأمراض المعدية ، وتوصّل إلى أنّ الحجر الصّحّيّ من أهمّ أسباب مكافحة الأمراض المعدية والقضاء عليها ([6]) .والحجر غالبا ما يكون مدة فترة حضانة المرض ، حتى يتأكّد من خلوّه منه، ويتم تحصينه أو علاجه ، وقد يكون الحجر في أماكن خاصّة كمن يقدم من بلد مصابة بالمرض المعدي الساري للحج أو العمرة ، فإنه يحجر عليه ، حتى يُتأكّد من خلوّه من الأمراض السارية ، وقد يكون الحجر مجرّد منعه من الخروج من البلد المصاب بالمرض المعدي ، حتى يتمّ تحصينه ضدّ المرض ، أو تزول أسباب المرض .كما يكون الحجر على المريض المصاب بالمرض المعدي ، والهدف من ذلك :علاج المصاب بالمرض إذا أمكن ، وتوفير العناية  الطّبّيّة له .

والحجر الصحي ليس مقصوراً على الأشخاص فقط بل إنه يطبق أيضا على الحيوانات ،ووسائل النقل المختلفة لمنع انتقال مرض، أو مستودعه، أو نواقل المرض وذلك حسب اللوائح والأنظمة الصحية الدولية . هذا ويجب توفير العناصر الطبيّة المتخصّصة ، كما أن الطبيب ملتزم بمعالجة المصابين بأمراض معدية ، و يحرم عليه الفرار من المنطقة الموبوءة من باب أولى ، أو حتى مجرّد الامتناع عن علاج المصابين ، ذلك أنه بفراره أو امتناعه يسهم بصورةكبيرة في انتشار المرض وتفشّيه ، وهو الأعرف بوسائل الوقاية منه ، وطرق مكافحته ، والحدّ من انتشاره، وفي الوقت نفسه فهو قادرٌ – بإذن الله – أن يحمي نفسه من الإصابة،ويساعد غيره أيضاً.([7])

 

( 48) انظر : تفسير المنار ، محمد رشيد بن علي رضا ، ط: الهيئة المصرية العامة للكتاب – ( 6/7 21)

 (49) الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي وهو شرح مختصر المزني ، اسم المؤلف:  علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري الشافعي ، ط: دار الكتب العلمية – بيروت –  ( 6 / 339)

([3]) انظر : الموسوعة الطبية الفقهية د. أحمد كنعان ، ط: دار النفائس ( 704 )

([4]) انظر : أبحاث المؤتمر العالمي الرابع عن الطب الإسلامي ، الإسلام والطب الوقائي ( 207 )

([5])  سبق تخريجه .

([6])  انظر : العدوى بين الطب وحديث المصطفى ( 100 ).

([7]) انظر : الموسوعة الطبية الفقهية ( 705 )

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى