إجتماعيهاسلامياتالباحث

القواعد والضوابط الفقهية للتعامل مع الأوبئة وتطبيقاتها

بقلم : د/ سامح أبو طالب

المبحث الثالث : الأمراض الوبائية  والعدوى

العدوى لغة : هي المعونة ، والعدوى أيضا ما يعدي من جرب أو غيره ، وهو مجاوزته من صاحبه إلى غيره ، يقال : أعدى فلان فلانا من خلقه أو من علة به أو من جرب ، نقول : دفعت عنك عادية فلان أي ظلمه وشره .([1])  والعدوى في الشرع هي : تجاوز العلة صاحبها إلى غيره، ([2]) والمراد بالعلة : العلة الحسية التي هي المرض لا المعنوية التي هي الخلق . وهذا أيضاً مراد الأطباء بها ، فلابد أن تتصف العلة بصفة الانتقال من المصاب إلى السليم فليس كل علة لها تلك الصفة .

ومسألة العدوى مختلف فيها عند العلماء ، فمنهم من قال: لا عدوى ، واستدلوا بما روي عن أبي هُريْرَةَ قال : قال رسول اللّهِ – صلى الله عليه وسلم –” لا عدْوَى ولا طِيرَةَ ولا هامَةَ ولا صفَرَ وفِرَّ من الْمَجْذومِ كما تَفرُّ من الأَسَدِ “([3]) ، وبحديث جابر بن عبدالله  أن رسول الله  أخذ بيد مجذوم فوضعها معه في القصعة وقال : ” كُلْ باسم الله ثقة بالله وتوكلاً عليه “.([4])  ومن قال بوجود العدوى استدل بما روي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله  : ” لا يوردنَّ مُمرض على مصح” ([5]) ،ومسلم بلفظ : “لا يورد ممرض على مصح” ([6]) . كما استدلوا أيضا بقول أبي هريرة السابق ” …… وفِرَّ من الْمَجْذومِ كما تَفرُّ من الأَسَدِ ”

ويمكن الجمع بين الأحاديث بأنه لاشيء يعدي بطبعه مستقلاً ، بل بجعل الله ذلك من خصائصه ، وأتى النفي في الحديث بسبب ما كانت الجاهلية تعتقده من أن الأمراض تعدي بطبعها من غير إضافتها إلى الله تعالى ، فجعلوها مؤثرة بنفسها تأثيراً مستقلاً عن قدرة الله ، فأبطل النبي  اعتقادهم ودعواهم  بأكله  مع المجذوم دليل على إبطال اعتقادهم ؛ وليعلمهم أن الله هو الذي يُمرض ويَشفي وبيده النفع والضرر ، إن شاء ضرّ وإن شاء نفع ، ونهيه  عن الدنو منهم – أي المجذومين – والأمر بالفرار ؛ ليبين أن مخالطتهم سبب يفضي إلى مسببه وهي حصول العدوى – فالمخالطة من أسباب العدوى – بتقدير الله ذلك فيها لا باستقلالها ، فهو جل وعلا إن شاء جعل المخالطة مؤثرة وإن شاء سلبها التأثير . وليست العلة هي المنتقلة بل المنتقل المُسَبِّبُ للمرض بجعل الله ذلك فيها، وهي مخلوقات متناهية في الدِّقة لا ترى بالعين المجردة، بل يحتاج إلى تكبيرها آلاف المرات حتى ترى ، وتسمى “ميكروب المرض” ، ودخولها إلى البدن لايعني حصول المرض لأنه:- إما أن يتغلب الجسم عليها ويقضي عليها فيسلم الجسم، وتحصل له المناعة من ذلك المرض، فيبقى الجسم غير حامل للميكروب أو الفايروس. – أو أن يتغلب الميكروب على الجسم فيظهر أثر المرض وأعراضه عليه، فيكون مصاباً به ، وفي هذه الحالة يكون الشخص مريضاً، معدياً لغيره . – ألا يتغلب أحدهما على الآخر فيحصل التعايش بينهما ، فيكون الشخص حاملاً للمرض غير مصاب به فيعدي غيره ولا يصاب هو به ويسمى “حامل أو ناقل المرض” . فالميكروبات معدية ، وليست هي العامل الوحيد المسبب للمرض ، بل إن هناك عوامل وأسباباً أخرى بعضها معلوم، وكثير منها مجهول تتحكم في ظهور المرض أهمها ، وأولها جعل الله سبحانه وتعالى في ذلك الميكروب القدرة في الإعداء ([7])   . فخلاصة القول : إن قوله: ” لا عدوى” :خبرٌ، وليس نهياً ، ومعناه : لا شيء يعدي شيئاً إلا بإذن الله تعالى وقدرته ، والفرار من  المجذوم واجب خشية العدوى ؛ إذ مخالطته سبب لها ، وهذا ما قال به جمهور العلماء من المالكية والشافعية([8]) . وذكر الإمام ابن بطال كلاما طيبا في هذا السياق، قال([9]): فإن قال قائل : فهل من أحد إلا وهو ميت بعد استيفائه مدة أجله الذى كتب له ؟ قيل : نعم . قال : فإن كان كذلك فما وجه النهى عن دخول أرض بها الطاعون أو الخروج منها ؟ قيل : لم ينه عن ذلك أحد خوفا عليه من أن يصيبه غير ماكتب عليه أو أن يهلك قبل الأجل الذي لايستأخر عنه ولايستقدم ، ولكن حذار الفتنة على الحي من أن يظن إنما كان هلاكه من أجل قدومه عليه وأن من فر عنه فنجا من الموت أن نجاته كانت من أجل خروجه عنه . فكره رسول الله ذلك ، ونهيه عليه السلام عن ذلك نظير نهيه عن الدنو من المجذوم ، وقال : ( فرّ منه فرارك من الأسد ) مع إعلامه أمته أن لا عدوى ولا صفر . وقوله : ” وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرار منه ” دليل أنه يجوز الخروج من بلدة الطاعون على غير سبيل الفرار منه ، إذا اعتقد أن ماأصابه لم يكن ليخطئه ، وكذلك حكم الداخل فى بلدة الطاعون إذا أيقن أن دخوله لايجلب إليه قدرًا لم يكن قدره الله عليه ، فمباح له الدخول إليه . وروي عن ابن مسعود قال : الطاعون فتنة على المقيم والفار ، أما الفار فيقول : فررت فنجوت ، وأما المقيم فيقول أقمت فمت ، وكذلك فرّ من لم يجىء أجله وأقام فمات من جاء أجله.  والصحيح أنه يمنع القدوم على بلد الطاعون كما يمنع الخروج منها فرارا من ذلك ، أما الخروج لعارض فلابأس به ، – كما يحدث الآن بين الدول ، كخروج العالقين والذين انتهت تأشيراتهم ومن كان وجوده في بلد وجودا غير شرعي – وهذا مذهب الجمهور من فقهاء الشافعية ، قال القاضي: هو قول الأكثرين ، قال : حتى قالت عائشة ” الفرار منه كالفرار من الزحف “.([10]) أي كما لايجوز لك الفرار من الزحف كذلك لا يجوز لك الخروج والدخول على أرض الطاعون ، وخاصة إذا كانت هناك توصيات من أصحاب القرار بعدم الخروج والدخول ، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .

 

1/176) مادة ( ع د ا ) .  انظر: محتار الصحاح ( ([1](

([2]) الكاشف عن حقائق السنن ، شرف الدين الطيبي ، ط : مكتبة نزار – الرياض – (8/314 )، والتوقيف على مهمات التعاريف ، محمد المناوي ط : دار الفكر – بيروت – (508 )

[3]) ) أخرجه البخاري ، باب الجذام ( 5/2158 ) برقم ( 5380)

 أخرجه أبو داود ، كتاب الطب ، باب (في الطيرة) ، ( 557 ) برقم  (3925) ([4] )

([5]) أخرجه البخاري ، كتاب الطب ، باب ( لا هامة ) ، ( 1238 ) برقم (5771) .

([6]) أخرجه مسلم ، كتاب السلام ، باب ( لا عدوى ولا طيرة …) ، ( 913 ) برقم (2221) .

([7]) انظر : العدوى بين الطب وحديث المصطفى د. البار ( 40 ومابعدها) ، الأمراض المعدية للكاديكي ، ( 9-10 )

([8]) انظر : شرح النووي على مسلم (4/306-307 ) ، ومغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج ، محمد الخطيب الشربيني ، ط : دار الفكر – بيروت (340-341) ، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير ، محمد عرفه الدسوقي ، ط: دار الفكر – بيروت ، (2/529)

([9] ) شرح صحيح البخاري ( 9/425/426)

(47 ) انظر : شرح النووي على صحيح مسلم  ، ( 14/205)[10]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى